شبكة الاقتصاد الخفي للدواء المهرّب..تحقيق عابر للحدود يتتبع أخطر تجارة في مناطق النزاع


الجمعة 19 ديسمبر 2025

شبكة الاقتصاد الخفي للدواء المهرّب..تحقيق عابر للحدود يتتبع أخطر تجارة في مناطق النزاع

كان الطفل حسام، ابن السبع سنوات من الجنينة غربي السودان ، يلهو مساءً بحصى صغيرة أمام منزله، حين ارتفعت حرارة جسده فجأة. حملته أمّه إلى أقرب صيدلية ، واشترت مضادًا حيويًا مع خافض للحرارة بمبلغ و ما يعادل 20 دولار ،كانت تتوقع أن يعود طفلها للعب في صباح اليوم التالي، لكنها عادت في الفجر ذاته وهي تحتضن جسدًا بارداً لدواء لم يكن دواءً.

هذه الحكاية لم تكن في السودان وحده بل لها نسخٌ مشابهة في سوريا واليمن وتشاد، تختلف الوجوه لكن الألم واحد. طفلٌ في ريف إدلب يدخل في غيبوبة بسبب إنسولين فاسد، ورضيعٌ في عدن يفقد بصره بعد قطرة وهمية، وامرأة حامل في تشاد تموت مع جنينها بعد تناول مضاد حيوي تالف.

هكذا يتحوّل الدواء.. الاختراع الذي خُلِق للشفاء إلى أداة خفية تُشبه قنّاصة خفية لا تُرى.

يتنقّل من صحارى دارفور في السودان إلى جبال إدلب في سوريا ، ومن موانئ عدن باليمن إلى أسواق أنجمينا بتشاد ، يعبر حدودًا لا تحرسها الدول، ويتحوّل من “علاج” إلى “سلاح اقتصادي” يموّل أطرافًا في صراعات لا تنتهي.

هذا التحقيق لا يروي فقط رحلة الدواء في زمن الحروب… بل يروي أيضًا رحلة فريق صحفي قطع حدودًا وجغرافياتٍ وتجارب إنسانية معقدة، ليقدّم صورة كاملة عن شبكةٍ تتحرّك في الظلام.

بين السودان وسوريا واليمن وتشاد، جمع الفريق شهادات من الميدان، وراجع وثائق، وتتبع مسارات التهريب، واستمع لضحايا ومختصين ومن يعملون في الصفوف الخفية لهذه التجارة القاتلة.

 

السودان .. حيث يبدأ الخيط الأول في شبكة الموت

WhatsApp Image 2025-12-11 at 10.56.00 PM.jpeg

بائع أدوية في مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور بالسودان 

في السودان، تبدو الحكاية أكثر فجاجة ، منذ 15 أبريل 2023، مدن تحوّلت مستشفياتها إلى أطلال، وأروقتها إلى مقابر باردة. هناك يتسلّل الموت بهدوء في هيئة عبوة دواء، لا يختلف شكلها كثيرًا عن العبوات التي كانت تُنقذ الأرواح قبل الحرب.

في دارفور، لا يسمع الناس فقط صوت القصف، بل يسمعون أيضًا صرير الأبواب الحديدية لصيدليات الظلّ، التي تبيع “العلاج” دون فواتير، ودون رقابة، ودون ضمان إلا الرغبة الغريزية في البقاء.

يقول محمد (اسم مستعار)، صيدلي ميداني في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور في السودان : "كثير من العبوات تصلنا ساخنة، كأنها خرجت توًا من الفرن. عندما نفتحها نجد الأقراص متفتتة والشراب متكتل، لكن الناس لا يملكون خيارًا في الحرب لا أحد يسأل عن الجودة… الناس يسألون فقط عن البقاء."

الأدوية التي تصل إلى دارفور تمر عبر طرق أطول من دروب الهجرة، وأخطر من خطوط النار. تمتد شبكات التهريب من مستودعات أفريقيا الوسطى، مرورًا بتشاد، ثم إلى عمق دارفور.

شاحنات مكشوفة تعبر صحارى تصل حرارتها إلى خمسين درجة، فتموت المادة الفعالة قبل أن يصل الدواء إلى يد المريض.

يشرح الصيدلي خالد سليمان الصورة المخفية: "الحرارة والرطوبة تدمران البنية الكيميائية للأدوية الحساسة. بعض الأدوية تصل بعد أسابيع وقد فقدت فعاليتها بالكامل، لكنها تُباع كما هي .. لأن أحدًا لا يستطيع التفريق بين السمّ والدواء."

وبحسب خبراء يظهر أول خيط ترابط بين السودان وتشاد: نفس الشاحنات التي تعبر الصحراء، ونفس نقاط التفتيش التي تُدفع فيها الرشاوى، ونفس ممرات التهريب التي تحمل السلاح والوقود والدواء معًا.

في مستشفى الجنينة التعليمي التي تقع في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور في السودان، تحكي الدكتورة صفاء محمد (اسم مستعار): "الأسبوع الماضي فقدنا طفلة في السابعة من عمرها كانت تعاني من التهاب رئوي بسيط. استخدمنا مضادًا حيويًا متوفرًا في السوق. بعد أسبوع لم تتحسن. حين أرسلنا العينة إلى المعمل اكتشفنا أن المادة الفعالة كانت منخفضة بنسبة 80%."

وهكذا يتضح أن المشهد ، ليس صدفة بل جزء من اقتصاد حرب جديد، يُدار من خلف الكواليس، حيث تتلاقى المصالح و تجار الموت في صفقة واحدة: تهريب الأدوية مقابل استمرار النزاع.

 

تشاد .. السوق المكشوفة التي تتوزع منها السموم

في أسواق العاصمة التشادية أنجمينا، تتحول صناديق الأدوية إلى سلع مكشوفة تحت الشمس الحارقة. الحاج عمر، تاجر أدوية في السوق المركزي، يدافع عن تجارته: "الناس تحتاج الدواء ونحن نوفرها لهم. نعم، بعضها يصل بحالة سيئة، لكنه أفضل من لا شيء".

يقول محمود إبراهيم، سائق شاحنة يعمل على طريق أنجمينا "تشاد" - الجنينة "السودان"، يصف الرحلة: "نقود لساعات تحت الشمس الحارقة، والأدوية معروضة في المقطورة المكشوفة. في كل نقطة تفتيش، ندفع رشاوى للعبور. الأدوية تصل وقد تحولت إلى مسحوق أحياناً".

WhatsApp Image 2025-12-11 at 10.31.48 PM.jpeg

بيع الادوية في الدكاكين والبقالات في إحدى المدن التشادية 

 

أدوية تتحول إلى سموم قاتلة

تروى الدكتورة فاطمة إسماعيل، طبيبة في عيادة حدودية قرب مدينة أبشي التشادية، بحزن يخيم على صوتها: "كل يوم نشهد مأساة جديدة، لكن الحالة التي لن أنساها ما حييت كانت تلك الأم الشابة في الثلاثين من عمرها، والتي كانت تحمل في شهرها السادس. جاءت إلينا بحالة إعياء شديد وحمى مرتفعة، وكانت تأمل في الحصول على علاج لالتهاب بولي حاد خشيت أن يؤثر على جنينها."

تتوقف الدكتورة فاطمة لحظة، ثم تتابع: "اشتريت مضاداً حيوياً من السوق المحلي، وبعد ثلاثة أيام من استخدامه، دخلت في غيبوبة. عندما وصلت إلى عيادتنا، كانت قد توقفت أعضاؤها الحيوية عن العمل. حاولنا إنقاذها طوال الليل، لكنها توفيت مع جنينها في الساعات الأولى من الصباح."

ويضيف الدكتور إبراهيم محمود، الصيدلي في مستشفى بإحدى معسكرات شرق تشاد أن: "الأدوية المهربة لا تشكل خطراً فقط بسبب انتهاء صلاحيتها أو فقدان فعاليتها، بل أصبحت مصدراً لنقل الأمراض.

تشاد هنا ليست مجرد بلد مستهلك بل نقطة توزيع إقليمية 70% من الأدوية التي تمر عبرها تتجه نحو السودان ونيجيريا وجنوب ليبيا.

 

سوريا..من دولة دواء إلى دولة تبحث عن الدواء

منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011 ، تعرّضت البنية التحتية الصحية لضربات قاسية أنهكت منظومة الدواء الوطنية.

هذا الفراغ الإداري أتاح لشبكات التهريب التمدد في كل الاتجاهات، مستغلة ضعف التنسيق بين الجهات المعنية وتضارب الصلاحيات، إضافةً إلى غياب قاعدة بيانات وطنية موحّدة للأدوية والمستوردين.

وبحسب رئيس نقابة الصيادلة في حلب سابقاً الدكتور نبيل أسعد،: "توقفت 70% من معامل الأدوية المحلية عن العمل، ما أدى إلى اعتماد السوق على الاستيراد الغير المنظم عبر عشرات الوسطاء غير المعتمدين."

ومع غياب الإنتاج الوطني، أصبحت سوريا تعتمد على قنوات استيراد غير رسمية، يديرها سماسرة وشبكات تهريب عابرة للحدود، ما فتح باباً واسعًا أمام الفوضى والربح غير المشروع على حساب حياة المرضى.

وتنشط في أزقة دمشق تجارة موازية للدواء تفوق أرباحها أرباح تجارة الذهب.

يقول أمجد (اسم مستعار) وهو تاجر أدوية في دمشق: "أرباح تهريب الأدوية تصل إلى 300% أحيانًا. نشتري الأدوية المنتهية الصلاحية بأسعار زهيدة من مخازن في لبنان وتركيا، ثم نغلفها من جديد ونبيعها في السوق السوداء."

بهذه البساطة، تتحول المستحضرات المنتهية الصلاحية إلى سلعة قاتلة تُباع علنًا، وسط عجز الجهات الرقابية عن التدخل أو حتى معرفة حجم الكارثة الحقيقية.

 

معاناة المرضى: خيار بين الموت والإعاقة

وراء كل عبوة دواء مغشوشة، هناك قصة مأساة، تحكي سميرة (42 عامًا) من ريف إدلب بدموعٍ حارة: "اشتريت إنسولين لابني المصاب بالسكري من صيدلية مشهورة، بعد أسبوع، دخل في غيبوبة، اكتشفنا لاحقًا أن الإنسولين كان مخزنًا في مستودع غير مبرد لمدة ستة أشهر".

تكررت حوادث مشابهة في مناطق عدة، حيث تحوّل العلاج إلى أداة قتل بطيء. في غياب الرقابة تُباع الأدوية الحساسة دون أدنى مراعاة لشروط التخزين، فيما يتاجر بعض الصيادلة بمصير المرضى مستغلين غياب الرقابة الصحية و النقابة ، ومحاسبتهم قانونيا.

تبرز ظاهرة تهريب الأدوية كأحد أخطر مظاهر الانهيار المؤسسي ، فغياب المؤسسات الفاعلة، وتراجع أدوات الرقابة، وتفشي الفساد الإداري، جميعها عوامل ساهمت في تحويل سوق الدواء إلى بيئة خصبة للتهريب والتزوير، وسط غياب شبه تام للضوابط القانونية والصحية.

هذا الواقع يكشف غياب الحوكمة الرشيدة ويؤكد أن تهريب الأدوية ليس مجرد نشاط غير قانوني، بل هو نتيجة مباشرة لانهيار المنظومة الإدارية والرقابية.

لكن المشهد هنا مختلف؛ فالدولة منذ عقود كانت تمتلك صناعة دواء قوية ، أما مؤخراً فهي تعتمد على شبكة تهريب تتشابه نسبياً مع الشبكات التي تغذي السودان وتشاد واليمن.

 

اليمن..البحر الذي يحمل الموت في علب بلاستيكية

اليمن البلد الذي تمزقه الحروب، اصبح واحدًا من أخطر أسواق تهريب الدواء في العالم.

تشير تقارير البنك الدولي 2021 في اليمن إلى أن الدواء المهرب في البلاد يشكل ما يفوق 50%، بينما كشف تقرير للعربي الجديد 2023 أن النسبة ارتفعت إلى 70%. هذه الأرقام تخفي وراءها معاناة يومية للمواطنين.

ووفقاً لورقة إحصائية عالمية، فإن المتوسط العالمي للأدوية غير المطابقة للمواصفات في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل يبلغ 13.6% من الإجمالي ، مع 19.1% لمضادات الملاريا و 12.4% لمضادات حيوية.

اما التقرير الصادر عن The Organised Crime Index لمجموعة دول عربية يُدرج اليمن ضمن دول ذات “أسواق إجرامية” عالية، حيث سجل “التجارة في السلع المزوّرة” (بما يشمل الأدوية) بمؤشر 6.50 من 10.

في اليمن، تُقدَّر أن حوالي 60% من الأدوية إما ذات جودة منخفضة أو مستوردة بطريقة غير نظامية، ما يعكس هشاشة كبيرة في منظومة الرقابة على الدواء.

قصص المرضى والأطباء من صنعاء وعدن تكشف خطورة وتدهور الوضع الصحي ، يحكي عبد الباري (25 سنة) من أبناء مدينة عدن بتأثر: "كنت أُعالج من التهاب في العين، اشتريت الدواء من صيدلية موثوقة. بعد شهر من الاستخدام دون فائدة، أخبرني الطبيب أن الدواء مهرب وفاقد لفاعليته. كدت أفقد بصري بسبب هذا الدواء".

 

تهريب منظم برعاية أطراف الصراع

ميناء.webp

صورة لقوارب في ميناء رأس العارة 

النائب الأول للجمارك في المنطقة الحرة باليمن عبد السلام عسكري يكشف: "هناك جهات تستفيد من التهريب وتعمل على المساهمة في ذلك ، مكتب الجمارك في ميناء رأس العارة لا يتم الالتزام فيه، وزادت حدة التهريب بسبب ضعف خفر السواحل اليمنية بشكل عام".

فيما يوضح الدكتور أنيس المحضار، مدير الرقابة الدوائية في وزارة الصحة العامة والسكان بعدن: " أن أغلب التحديات هو تداخل المهام بين الجهات وأيضا بعض القوانين بسبب غياب التحديث. الموظفون في نقاط التفتيش يفتقرون للتدريب الكافي، وكثير من الأدوية مكتوبة بلغات أجنبية لا يفهمونها".

وهكذا يتصل اليمن بسوريا عبر البحر، ويتصل بالسودان وتشاد عبر شبكات تهريب الأدوية التي تستخدم نفس المسارات البحرية.

 

طرق التهريب المتطورة

لم تعد طرق التهريب بدائية كما يظن البعض. خلال العمل الميداني في ليبيا وتشاد والسودان، كشف سائقون ومهرّبون عن استخدام وسائل أكثر تعقيدًا مما يظهر على السطح.

يقول علي (اسم مستعار) يعمل سائق شاحنة خط ليبيا – تشاد – السودان "نستخدم شاحنات مبردة مخصصة للأغذية لنقل الأدوية، مع تزوير وثائق الشحن لتبدو وكأنها مواد غذائية. عند نقاط التفتيش، ندفع ما بين 500 إلى 2000 دولار بالعملة المحلية للضباط حسب كمية البضاعة. أحياناً نضطر لتغيير الطرق باستمرار، ونستخدم سيارات إسعاف مزوّرة في بعض الأحيان."

هذه الطرق الصامتة عبر الصحراء تربط ثلاثة بلدان: ليبياتشادالسودان، وتحوّل الحدود الجافة إلى شريان رئيسي لدواء أُزهقت روحه قبل أن يصل ليد المرضى.

اليمن .. تهريب بحري متطور ومموَّه

في اليمن، لا تمر الشحنات عبر الصحراء فقط، بل تتحرك على امتداد واحد من أطول السواحل غير المُراقبة في المنطقة ، وتُستخدم أساليب تمويه متقدمة تشبه طرق تهريب البشر والسلاح.

يقول ملّاح يمني يعمل بين المخا – بربرة – عدن "نحمّل الأدوية في صناديق أسماك مغطاة بطبقة ثلج. تبدو الشحنة كأنها سمك فقط عند التفتيش. بعض المهربين يستخدمون قوارب صغيرة سريعة تحمل شحنة تكفي لتغذية سوق كامل. وعندما يشتد الضغط، تُنقل الأدوية في صناديق مكتوب عليها إغاثة إنسانية." في العام 2022 وثقت الأمم المتحدة استخدام قوارب صيد تقليدية لتهريب الأدوية من الصومال وجيبوتي ،

في موانئ المكلا وعدن والحديدة، تُستخدم حاويات مختلطة تجمع الدواء مع قطع غيار السيارات أو المنسوجات، يقول مسؤول في خفر السواحل "بعض السفن تأتي ببيانات شحن مزوّرة تشير إلى مواد تنظيف أو مواد غذائية. لكن داخلها أدوية سُحبت من أسواق في كراتشي ومومباي بعد انتهاء صلاحيتها."

وهكذا تصبح البحار كالصحراء، طرقًا مفتوحة لدواء مزوّر يخترق الحدود بلا مقاومة تقريبًا ، يذكر أن أكثر من 2500 كيلو متر هو طول السواحل اليمنية ، أغلبها مناطق غير خاضعة للرقابة ، كما أن فريق التحرير لم يستطع الوصول إلى خيوط تهريب الادوية في الحديدة والمناطق التابعة لسيطرة الحوثيين وسيتم .

 

سوريا .. شبكات تهريب جبليّة ومعابر ليلية

في سوريا، تختلف الجغرافيا لكن تتشابه الوسائل ، شبكات التهريب تستغل الجبال والوديان والمعابر الفرعية بين سوريا وتركيا ولبنان لتمرير الأدوية بطريقة لا تقل خطورة عن المسارات البحرية أو الصحراوية.

يقول مهرب يعمل بين ريف إدلب والحدود التركية "أحيانا نحمل الأدوية في شحنات خضروات. نُخفي العبوات داخل أكياس الفول والباذنجان. وفي الشتاء نستخدم سيارات تحمل مواقد تدفئة لاعبي الكرة لتدفئة المستحضرات كي لا تظهر علامات التلف."

 

بيانات حول مسارات سوريا السرية

يتم تهريب الأدوية عبر أكثر من 32 معبرًا غير رسمي بين سوريا وتركيا ، في المناطق التي كان يسيطر عليها نظام الأسد، نشطت شبكات ترتبط بتجار لبنانيين ينقلون الأدوية في شاحنات مواد بناء. تشير تقارير حديثة لمنظمة الصحة العالمية إلى أن ثلث الأدوية السورية المهرّبة تأتي عبر عمليات إعادة تغليف في مناطق حدودية. وكشف للشبكة العربية للصحافة العلمية تاجر أدوية من ريف دمشق أن "بعض المستودعات في القلمون تعيد طباعة تواريخ الإنتاج باستخدام أجهزة ليزر محمولة. بعدها تُنقل الشحنات عبر طرق جبلية في ساعات الفجر."

 الخيط الذي يربط الجميع

من شاحنات مبردة في الصحراء إلى قوارب صيد في البحر، ومن شاحنات خضروات في الجبال إلى سيارات إسعاف مزورة ، تتشابه طرق التهريب رغم اختلاف الجغرافيا: السودان وتشاد وليبيا: طرق صحراوية بتمويه غذائي/عسكري أما في اليمن: طرق بحرية بتمويه الأسماك والصناديق الإغاثية وفي سوريا: طرق جبلية بتمويه الخضروات وإعادة التغليف ، البلدان المذكورة جميعها يتم استخدام وثائق شحن مزورة، رشاوى، بحماية ميليشيات. بهذا تصبح الشبكة أوسع من حدود، وأخطر من سلاح ظاهر.

شبكة تحوّل الدواء إلى سلعة سوداء تمر عبر أربع دول، لكنها تقتل بالوتيرة ذاتها، وبالصمت ذاته.

 

تمويل الصراعات.. دواء بدماء

في خضمّ الفوضى التي تبتلع حدود ليبيا وتشاد والسودان، تتدفّق شحنات الدواء كما تتدفّق الأسلحة. ولكن هذه المرة، ليست الحبوب لمعالجة المرضى، بل لتمويل الصراعات. تقارير استخباراتية كشفت أن ما يقارب 40% من ميزانيات الجماعات المسلحة في المنطقة باتت تُموّل من تجارة الأدوية المهرّبة، حيث تحوّلت عبوات المسكنات والمضادات الحيوية إلى وسيلةٍ جديدة لتدوير الدماء.

يقول علي، وهو مهرّب سابق من الجنوب الليبي:

"كنت أنقل أدوية منتهية الصلاحية من مستودعات في مصراتة إلى تشاد. كنا نغيّر تواريخ الإنتاج باستخدام آلات طباعة حديثة حصلنا عليها من السوق السوداء في تونس. بعض الشحنات كانت تحتوي على أدوية مخصّصة للأمراض المزمنة، كالسُّكري والضغط. كنا نبيعها في دارفور بثمن الذهب، رغم أننا نعرف أنها لم تعد صالحة."

هذه الشبكات لا تعمل بمعزل عن السلطات المحلية أو بعض الموظفين الفاسدين في الموانئ والمطارات. مصادر ميدانية في سبها والجنينة تؤكد أن بعض الشحنات تمر عبر حواجز عسكرية مقابل “رسوم مرور” تُدفع نقدًا أو عبر حصص من البضائع نفسها.

يقول أحد العاملين في منظمة إنسانية - فضّل عدم ذكر اسمه إنهم صادفوا في إحدى القرى الحدودية في ليبيا أدوية مخصّصة لبرامج الأمم المتحدة مكتوب عليها “غير مخصصة للبيع”. لكنها كانت تُباع في السوق الحرة بأسعار مضاعفة. "حين سألنا عن مصدرها، قالوا إنها وصلت عبر طريق الكفرة الليبية. نفس الطريق الذي تمر منه قوافل السلاح."

ويُضيف الخبير في مكافحة الفساد الدكتور معن صبري أن "تهريب الأدوية أصبح بديلاً عن تجارة المخدرات. فهو أقل مخاطرة من حيث العقوبة، وأصعب كشفاً، لأن الدواء في النهاية سلعة إنسانية. من يجرؤ على تفتيش شاحنة تحمل شعار الهلال والصليب؟ لكن الأرباح الطائلة تذهب لشراء السلاح، لتستمر دورة المرض والموت.

وفي إحدى المقابلات السرية لفريق التحرير مع مهرب آخر على الحدود السودانية التشادية، قال إنهم بدأوا يستخدمون الدواء كعملة تبادل مع الميليشيات "أحياناً لا ندفع نقداً. نرسل صناديق أدوية مقابل حراسة الطريق أو تهريب الأشخاص. الدواء الآن أثمن من الدولار في بعض المناطق."

 

الخسائر البشرية.. أرقام تقديرية مخيفة

تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن الأدوية المغشوشة وغير المطابقة للمواصفات تتسبب في نحو 100,000 حالة وفاة سنويًا في إفريقيا وحدها ،معظمها في مناطق النزاع، حيث تنهار منظومات الرقابة وتتلاشى المسؤولية. خلف كل رقمٍ في هذه الإحصاءات، هناك مريضٌ كان يبحث عن شفاءٍ فوجد الموت في عبوة دواء. في دارفور وحدها، تشير تقديرات أطباء ميدانيين إلى أن نسبة الأدوية الفاسدة تجاوزت 60% من المعروض في الأسواق الشعبية منذ اندلاع الحرب.

وتكشف شهادات ممرضين أن بعض المستودعات الميدانية التابعة لجماعات مسلّحة تستخدم الأدوية كأداة حرب ناعمة تعاقب بها المدنيين في المناطق التي ترفض الانصياع أو تحرمهم منها تمامًا.

 

بصيص أمل

رغم سوداوية المشهد، ما تزال بعض المبادرات تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. في مناطق يخيّم عليها الفساد والخوف، يخرج أطباءٌ ومهندسون ومحامون ليضعوا خطوطًا دفاعية صغيرة في وجه تجارةٍ كبرى بالموت. في إحدى المدن الحدودية، أسّس فريق من الأطباء "المركز المجتمعي لفحص الأدوية"، حيث يفحصون العينات للمواطنين مجانًا لكشف المغشوش منها. مبادرة بسيطة، لكنها تمثّل خط المقاومة الأخير ضدّ السمّ المتخفي في العبوة.

في الوقت ذاته، تشير المحامية لمى الحسين، الخبيرة في التشريعات الصحية، إلى أن القوانين الحالية عاجزة عن ملاحقة شبكات التهريب العابرة للحدود، إذ لم تُصمم لمواجهة اقتصادٍ حربيّ يستخدم الدواء كعملة. وتضيف:

"نحتاج إلى تشريعات دولية تعتبر تهريب الأدوية جريمة ضد الإنسانية، لأن ضحاياه يُقتلون ببطء، وبصمتٍ لا يسمعه أحد."

أما المهندس باسل قطّان، المتخصص في سلاسل التبريد، فيصف جانبًا آخر من الكارثة و يقول "تدمير البنية التحتية في مناطق النزاع يعني انهيار سلاسل التبريد للادوية الحساسة كاللقاحات والأنسولين. نحتاج إلى حلول مبتكرة مثل وحدات التبريد العاملة بالطاقة الشمسية لإبقاء الحياة ممكنة."

هكذا، بين حيلة الأطباء، وصوت المحامين، وجهد المهندسين، يتشكّل بصيص أملٍ في ظلامٍ كثيف. غير أن هذا الضوء سيبقى خافتًا ما لم تتكاتف الإرادة الدولية والحكومات لوقف نزيفٍ لا تسببه الرصاصات وحدها، بل أيضًا الحبوب المغشوشة التي تُباع في الأسواق على أنها علاج، وهي في الحقيقة وجهٌ آخر للحرب نفسها.

 

الدواء في قلب معادلة الحرب

تكشف الوقائع والشهادات والبيانات التي رصدها هذا التحقيق أن تهريب الأدوية في السودان وتشاد وسوريا واليمن لم يعد نشاطًا هامشيًا أو تجارة غير قانونية على أطراف الصراع، بل أصبح ركيزة مركزية في اقتصاد الحرب.

شبكات عابرة للحدود تديرها مجموعات مختلفة، لكن دوافعها واحدة: تحقيق أرباح طائلة في فراغٍ تركته دول منهارة ونظم رقابية عاجزة.

 من الصحراء المفتوحة بين ليبيا وتشاد والسودان، إلى السواحل الغير خاضعة للرقابة في اليمن، مرورًا بالمعابر الجبلية في سوريا، تتنوّع الطرق الجغرافية بينما تبقى النتيجة واحدة: وصول أدوية ميتة إلى أسواق تعتمد عليها ملايين الأسر يوميًا للبقاء على قيد الحياة.

هذا التمدد الصامت يجعل من كل جرعة دواء مخاطرة محتملة،  ومع استغلال الدواء كوسيط لتمويل الميليشيات، وكمصدر نفوذ، وكسلاح عقاب في بعض المناطق، تتجاوز خطورة هذه التجارة حدود الصحة العامة لتصبح تهديدًا مباشرًا للأمن الإنساني.

ورغم بوادر جهود فردية هنا وهناك أطباء يختبرون العينات، محامون يحذرون من الثغرات التشريعية، ومسؤولون يحاولون سد الفجوات ليبقى التأثير محدودًا أمام شبكة تتقاطع فيها مصالح محلية وإقليمية.

وبينما لا تزال هذه الظاهرة خارج دائرة الاهتمام الدولي، وتستمر الأسواق في استقبال شحنات جديدة كل يوم، وتستمر الأرقام في الصعود، وتستمر الخسائر البشرية في التراكم بلا ضجيج.

 

يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم:

كيف يمكن مواجهة شبكة تتطور أسرع من الأجهزة الرقابية وتتحرك عبر حدود مفتوحة بلا محاسبة؟

وما لم تُوضع آليات إقليمية ودولية صارمة، سيظل الدواء في هذه البلدان الأربع جزءًا من معادلة الحرب، لا من منظومة العلاج.