بقلم: هلا مراد
خبيرة في سياسات البيئة والمناخ - الأردن
حين اعتمد اتفاق باريس في 12 كانون الأول 2015 لم يقدم بوصفه إعلان نوايا أخلاقية، بل كاتفاق دولي قائم على التزامات تعاقدية واضحة وإن كانت متفاوتة وقد وزعت هذه الالتزامات عبر مواد مترابطة شملت التكيف بوصفه هدفاً عالميا في المادة 7 والاعتراف بالخسارة والضرر في المادة 8 والتمويل في المادة 9 والتعاون الطوعي بما في ذلك أسواق الكربون في المادة 6 بعد عشر سنوات لم يعد الخلل في صياغة النص ولا في طموحه، بل في اخلال ممنهج بتنفيذه وفي فصل متعمد بين مواد افرغها من مضمونها القانوني والوظيفي
المادة 7 لم تترك مجالا للتأويل فهي لم تتعامل مع التكيف كاستجابة ظرفية ولا كمساحة تقديرية بل كهدف عالمي قائم بذاته مرتبط بالعدالة والانصاف واخذ احتياجات الدول النامية بعين الاعتبار غير أن ما جرى في التطبيق كان تحويل هذا الهدف إلى التزام شكلي يقاس ولا يمكن تمكينه ويرصد ولا يربط بالتمويل ويذكر ولا يقترن بالمساءلة اعتماد 59 مؤشراً عالميا للتكيف بعد عشر سنوات مثل لحظة اعتراف متأخرة لا لحظة تنفيذ حقيقية اذ صممت هذه المؤشرات بوصفها طوعية وغير ملزمة وغير قابلة للاستخدام كأساس للمحاسبة وهو ما لا يمكن اعتباره قصورا اجرائيا بل تقاعسا عن تنفيذ واجب منصوص عليه صراحة
هذا التقاعس يصبح أكثر وضوحا عند قراءة المادة 9 التي حملت الدول المتقدمة واجباً صريحاً في توفير الموارد المالية للدول النامية مع اعطاء اولوية واضحة للتكيف بما يتناسب مع احتياجاته المتزايدة غير أن الواقع القائم أظهر أن تمويل التكيف ظل محدوداً وغير كاف ومائلا بنيويا نحو التخفيف وغالبا في دول قادرة اصلا على الوصول إلى الاسواق فيما تم دفع الدول الاكثر هشاشة نحو القروض أو التمويل المشروط وهنا تحول التمويل من أداة تنفيذ إلى أداة تفاوض ومن التزام تعاقدي إلى خيار سياسي انتقائي الأمر الذي أفرغ المادة 7 من مضمونها وقوض مبدأ المسؤوليات المشتركة ولاسيما المتباينة.
في هذا السياق تبرز المادة 8 الخاصة بالخسارة والضرر بوصفها المجال الأكثر حساسية للإخلال فقد اقر الاتفاق صراحة بان هناك اثارا للتغير المناخي لا يمكن التكيف معها وأن خسائر حقيقية تطال الاراضي والموارد وسبل العيش والحياة نفسها وتم تفعيل هذا الاعتراف من خلال آلية وارسو الدولية التي انشئت اساسا كآلية للتعلم وبناء المعرفة والتنسيق وتبادل الخبرات لا كـآلية تمويل او جبر ضرر ، وهو ما جعلها عاجزة بطبيعتها عن الاستجابة لحجم الضرر المتحقق وعلى الرغم من هذا القصور الهيكلي لم يتم الانتقال لسنوات نحو اداة مالية ملزمة ولم يقر صندوق للخسائر والاضرار إلا في COP28 بدبي وبعد عقود من التأثير المناخي المتراكم وحتى بعد إقرار الصندوق استمرت المشكلة قائمة اذ لم تتم تعبئته ماليا بما يتناسب مع حجم الاضرار ولم ترس أليات تمويل مستقرة وقابلة للتنبؤ ولم توضح معايير الوصول العادل للموارد وبذلك تحول الاعتراف بالخسارة والضرر إلى التزام مؤجل وترك المتضررون في فراغ قانوني بين الاعتراف السياسي وغياب الجبر الفعلي.
هذا الخلل البنيوي يتعمق عند النظر إلى المادة 6 التي كان يفترض أن تشكل أداة للتعاون الطوعي الداعم لتحقيق أهداف الاتفاق لا بديلا عنها غير أن مسار المفاوضات والتنفيذ حول أسواق الكربون حول هذه المادة إلى مساحة لتأجيل الخفض الحقيقي للانبعاثات ونقل الاعباء إلى دول ومجتمعات أقل قدرة على الاعتراض تحت غطاء التعاون التقني وحين تستخدم آليات السوق لتجاوز الالتزامات لا لدعمها فان ذلك يشكل اخلالا بمبدأ حسن النية في تنفيذ الاتفاقات الدولية ويقوض العلاقة بين التعاون والعدالة التي يفترض أن تحكم النظام المناخي.
الفصل القائم في التطبيق بين المواد 6 و7 و8 و9 لا يستند إلى نص الاتفاق بل يتناقض معه صراحة فالالتزامات صيغت كوحدة واحدة لا يمكن تجزئتها ولا يمكن تنفيذ مادة بمعزل عن الاخرى فلا تكيف بلا تمويل ولا اعتراف بالخسارة دون جبر ولا تعاون بلا عدالة غير أن ما جرى عبر مسار مؤتمرات الاطراف حتى COP30 هو تحويل كل مادة إلى مسار منفصل يخضع لموازين القوة السياسية وهو ما حول الاتفاق من اطار تعاقدي متكامل إلى منظومة إدارة ازمة تفتقر إلى الانصاف
في هذا السياق يكتسب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية أهمية مفصلية فهو لم يخلق التزامات جديدة، بل أعاد التأكيد على واجبات قائمة تشمل منع الضرر العابر للحدود وحماية الحقوق الاساسية واتخاذ التدابير المعقولة والمتناسبة في ضوء المعرفة العلمية المتاحة ومع توفر البيانات واعتماد مؤشرات التكيف وتوثيق الاضرار يصبح التقاعس عن التمويل العادل او الاصرار على القروض او استخدام أسواق الكربون لتأجيل الخفض سلوكا قابلا للتوصيف القانوني لا مجرد اخفاق سياسي.
بعد عشر سنوات على اتفاق باريس لم يعد النقاش يدور حول تحسين الصياغات او تمديد الجداول الزمنية بل أصبح يدور حول المساءلة عن الاخلال ، إما ان يعاد ربط مواد الاتفاق كوحدة التزام واحدة قابلة للإنفاذ أو يستمر الاتفاق كإطار يدير الخسارة بدل من منعها ، في هذه اللحظة لم يعد التكيف ترفا ولا التمويل منّة ولا التعاون سوقا، بل واجبات قانونية مؤجلة وتأجيلها لم يعد محايدا، بل مكلفا وقابلا للمساءلة.